سورة الأنفال - تفسير تيسير التفسير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


هنا امرنا الله ان نتقي الفتن الاجتماعية التي لا تخص الظالمين، بل تتعداهم إلى غيرهم، وتصل إلى الصالح، فقال: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} قال ابن عباس: امر الله المؤمنين ان لايُقرّوا المنكّر بين أظهُرهم فيعمّهم العذاب وفي صحيح مسلم عن زينب بن جحش«انها سألت رسول الله، فقالت له: يا رسول الله أنِلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث».
فاتقوا ايها المؤمنون الفتن، واضربوا على أيدي المجرمين، فان الذنب العظيم مفسدٌ جماعتكم ولا يصيب الذين ظلموا وحدهم، بل يصيب الجميع. والأفرادُ في نظر القرآن مسئولين عن خاصة انفسهم، ومسئولون عن أمتهم أيضا فإذا قصروا في أحد الجانبين أو فيهما- عرّضوا انفسهم وأمتهم للدمار والهلاك.
{واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} للأمم والافراد إذا سكتوا عن الفحشاء والمكَر فيهم، ولم يتلافوا المفاسد التي تحصل بينهم.
ثم يشفع الله هذا التحذير بتذكيرهم بنعمة الله عليهم حينما استجابوا وتضامنوا في المسؤولية والحرص على اعلاء كلمته، وكيف نظر الله اليهم على قلتهم فكثّرهم، والى ضعفِهم فقوّاهم وخوفهم فآمنهم، فقال: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض...} تذكّروا أيها المؤمنون، وقت أن كنتم عدداً قليلا، وضعفاء يستغلّ أعداؤكم ضعفكم، وقد استولى عليكم الخوف من أن يتخطفكم اعداؤكم فيفتكوا بكم. يومئذٍ آواكم أيها المهاجرون إلى يثرب حيث تلقّاكم الأنصار، وأيدكم وإياهم بنصره في غزواتكم، ورزَقكُم الغنائم الطيبة رجاء ان تشكروا هذه النعم تفسيرا في طريق الجهاد لإعلاء كلمة الله.
ثم يأتي النداء الرابع، وفيه ينبّههم إلى ان مخالفة الله في اوامره- ومن أشدِّها إفشاء سر الأمة للاعداء- خيانةٌ لله ولرسوله وخيانة للأمة، وحسب الخائنين سقوطا عند الله قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} [الأنفال: 59].
يا ايها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول بموالاة الاعداء، ولا تخونوا الامانات التي تكون بينكم، فالخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين.
واكبر خيانة في الوقت الحاضر هي قعود المسلمين عن الجهاد في سبيل الله، وتركُ المسجد الأقصى في يد أعداء اله اليهود. فالخيانة بكل معانيها صفة مذمومة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، واذا وعد أخلَف، واذا ائتُمِن خان، وان صام وصلى وزعم انه مسلم» {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وانتم تعلمون مفاسد الخيانة وتحريم الله لها وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة.
{واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} يحذّر الله هنا من شهوة النفس في الحرص على المال والولد، ذلك ان فتنة الاموال والاولاد عظيمة لا تخفى على ذوي الالباب، فلا تغلِّبوا ايها المؤمنون محبة المال والولد على محبة الله تعالى.
إن ذلك يفسِد أموركم. فيجب على المؤمن الصادق الإيمان ان يتقي الفتنة في المال بأن يكسبه من الحلال وينفقه في سبيل البر والاحسان، ويتقي الفتنة في الأولاد بحسن تربيتهم وتعويدهم الفضائل وحسن الاخلاق.
{وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} يجزيكم به عن المال والولد، فعليكم ان تؤثروا ما عند ربكم.
لمّا حذّر الله تعالى عن الفتنة بالأموال والأولاد، قفّى على ذلك بطلب التقوى التي هي اساس الخير كله، وان التقوى شجرة مثمرة، اعظم ثمارها الفرقان والنور الذي يبصرّنا بالحق والعدل والصلاح، والذي به نهتدي ونسعد، كما تُمحة سيئاتنا، ويغفر الله لنا ذنوبنا، وبه تفتح لنا ابواب السماء.
وهذا هو النداء الخامس: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم} انت تخضعوا لاوامر الله في السر والعلن، يجعل الله تعالى في انفسكم قدرةً تفرّقون بها بين الحق والباطل، وينصركم على أعدائكم، ويغفر لكم جميع ذنوبكم، فهو ذو الفضل العظيم عليكم وعلى جميع خلقه.


ليُثْبتوك: ليمنعوك من الحركة بالحبس وشد الوثاق. يمكرون: يدبرون لك أخبث الحيل. ويمكر الله: يُبطل مكرهم الأساطير: واحدها أُسطورة، وهي الخرافات والاحاديث القديمة. مُكاءً: تصفيراً بالفم. وتصدية: تصفيقا باليد.
في هذه الآيات الكريمة تصوير لموفق المشركين وهم يبيتون لرسول الله قبل الهجرة ويتآمرون عليه.
اذكر أيها الرسول نعمة الله عليك إذ يمكر بك المشركون للإيقاع بك، إما بالحبس الذي يمنعك من لقاء الناس ودعوتهم إلى الإسلام، وإما بالقتل، وإما بأن يُخرجوك من مكة، يدبّرون لكم التدبير السيء، والله تعالى يُبطل مكرهم بأن يدبرّ لك الخروج من شرهم. وتدبيرُ الله هو الخير وهو الأقوى والغالب.
ولما قص الله علينا مكرهم في ذاتِ النبيّ عليه السلام قصّ علينا هنا مكرهم في دِين محمد فقال: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا....}
اذكر ايها النبي معاندة المشركين عندما كنتَ تقرأ عليهم آياتِ القرآن الكريم، وهي آياتنا، فيقولون جهلاً منهم وعناداً للحق: لو أردنا ان نقول مثل هذا القرآن لفعلْنا، ان هذا يشبه أساطير الأمم القديمة وخرافاتها.
وكان زعماء قريش كأبي جهل والوليد بن المغيرة والنضْر بن الحارث وغيرهم يتواصَون بالإعراض عن سماع القرآن ويمنعون الناس عنه. وكان النضر بن الحارث يحفظ كثيرا من أخبار الأمم القديمة كالفرس والهند واليهود، فكان يتتبع الرسول الكريم وكلّما سمعه يتلو القرآن، يجلس على إثره ويحدّث الناس بأخبار الملوك وقصص الفرس والهند ثم يقول: بالله أيّنا أحسن قصصنا؟ انا أو محمد؟.
ولقد أسره المقداد بن الأسودَ يوم بدر، وامر النبيُّ عليه الصلاة والسلام بقتله.
{وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} اذكر أيّها النبيّ كيف ذهبوا في الكفر والعناد إلى ان قالوا، موجِّهين النداء إلى ربهم: اللهمّ إن كان هذا القرآن وما يدعو اليه محمد هو الحقّ فاجعلْ السماء تمطر علينا حجارة، أو أنزلْ علينا عذاباً شديدا.
وما كان من حكمة الله ورحمته ان يعذّبهم في الدنيا بعذاب شديد وانت فيهم تدعو إلى الحقّ راجياً اجابتهم له، وما كان من شأنه ان يعذّب العصاة وهم يتسغفرونه، وسلمون ويرجعون عما هم فيه.
{وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}.
وما لهم لايعذّبهم الله وحالُهم القائمة الآن تسوّغ تعذيبَهم، لأنهم يمنعون المسلمين من دخول المسجد الحرام، وما كانوا مستحقّين للولاية عليه لشرِكهم، وعملِ المفاسد فيه.
{إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون} أن أولياءه الحقيقيين هم المؤمنون الطائعون لله، ولكنّ أكثرَ المشرِكين لا يعلمون حقيقة الدين، ولا ماقم ذلك البيت الكريم.
{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} وما كانت صلاة المشركين وطوافهم في البيت الحرام إلا من قبيل اللّهو واللعب، فكانوا يطوفون رجالاً ونساءً عراةً يصفرون بأفواههم ويصفّقون.
{فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} ذوقوا عذابَ القتلِ لبعض كُبرائكم والأسرِ للآخرين منهم، وانهزمَ الباقين مدحورين يوم بدرٍ بسببِ كفركم.
قال بعض العلماء ان الآيات من رقم 30 إلى 36 مكيّة، وذلك لأنها تتحدث عن سورة الهجرة وما كان يجري بمكة من أفعالِ مشركي قريش، وهذا وهمٌ غير صحيح، إذ إن سورة الأنفال كلّها مدنية، اما ما جاء ي هذه الآيات فهو لتسلية الرسول الكريم، وللعِبرة والذكرى.


يركمُه: يجعل بعضه فوق بضه.
لما اصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلُّهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بقافلته- مشى رجال أصيب آباؤهم وأبناؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلَّموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك القافلة تجارة، قاولا: يا معشر قريش، إنَّ محمداً قد رزأكم، وقتل خِياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنّا ندرك منه ثأراً بمن أُصيب منا. ففعلوا، وجمعوا ما استطاعوا من المال، وموّلوا به غزوة أحد فنزلت فيهم.
إن هؤلاء الكفار الذي جحدوا آيات الله وأشركوا به، ينفقون أموالهم لمينعوا الناس عن الإيمان بالله واتّباع رسوله.. انهم سينفقون هذه الأموال لتكون حسرة عليهم، ولن تفيدهم شيئا، وسيُغلَبون في ساحة القتال في الدنيا ثم يساقون يوم القيامة إلى جهنّم وستكون تلك هي الحسرة الكبرى لهم.
وليس ما حدَثَ قبل بدرٍ وبعدها إلا أنموذجاً من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين وقد استمرَ العداء منذ فجر الدعوة ولا يزال، ومن الشرق والغرب، فلم يتركوا وسيلة الا تخذوها ليهاجموا الإسلام والمسلمين، واللهُ سبحانه وتعالى حفظ هذا الدين، وسيُبقيهِ عاليا إلى أن يرِث الأرضَ ومن عليها.
{لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} لقد كتب تعالى النصر لعبادة المتقين والخذلان والحسرة لمن يعاديهم من الكفار، ليميز الكفرَ من الايمان، والحق والعدل من الجور والطغيان، وليجعل الخبيث بعضهَ فوق بعض، ثم يجعل اصحابه في جهنم، وهم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: {لِيُمَيِّز} بالتشديد والباقون لِيَميزَ كما هو في المصحف.
{قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} ان باب الرجاء مفتوح في الاسم دائما، والفرصة أمامهم سانحة لينهوا عَمَّا هم فيه من الصدّ عن سبيل الله، وليتوبوا ويرجعوا إلى الله، والله واسع المغفرة يغفر ما سبق من اعمالهم، والاسلام يجُبُّ ما قبله. أما إذا عادوا بد هذا البيان إلى كفرهم، فإن سنّة الله في الأولين قد مضت، وهي ان يعذب المكذّبين، ويهب اولياءه النصر والعزّ التزموا بأوامر الشرع.
ويتجه الحديث إلى المؤمنين: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
استمِروا أيها المؤمنون في قتال المشركين حتى تزول الفتنةُ في الدين، ويمتنعوا عن إفسادهم لعقائد المؤمنين بالاضطهاد والأذى، فإن رجعوا عن الكفر وخلَصَ الدين لله، فإن الله تعالى عليمٌ بأعمالهم ومُجازيهم على ما فعلوا.
{وَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير}.
وإن استمرّوا على إعراضهم وإيذائهم للمؤمنينَ بعدَ بيان الرسول فاثبتُوا لهم أيّها المسلمون، واعلموا أنكم في وَلاية الله، وهو ناصرُكم عليهم، وحافظُكم منهم، وهو خير الحافظين.
وما غُلب المسلمون في هذه الأيام وذهَبَت أرضُهم إلا لنهم تركوا الاهتداء بهدي دينهم، وتركوا الاستعدا المادّي والحربيّ الذي طلبه بقوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] وتفرَّقوا دولاً كثيرة فذهبتْ ريحُهم وقلّتْ هيبتُهم وغُلبوا على أمرهم.
نسأل الله تعالى ان يوفقنا جميعا إلى ما يحبّه ويرضاه، ويجمع شتاتنا على الخير والهدى فنعود صفّاً واحدا، ونعيد مقدّساتنا إلى حظيرة الإسلام، إنه نعم المولى ونعم النصير.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6